ذكر الإمام ابن القيم في كتابه (أحكام أهل الذمة) , الشروط العُمرية , و هى الشروط التى وضعا أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه و أرضاه حين صالح نصارى الشام .
ذكر الشروط العمرية وأحكامها وموجباتها
قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثني أبو شرحبيل الحمصي عيسى بن خالد قال : حدثني [ عمي ] أبو اليمان وأبو المغيرة قالا : أخبرنا إسماعيل بن عياش ، قال : حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا : كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم : " إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا كنيسة ، ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب ، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ما كان منها في خطط المسلمين ، وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار ، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا ، وألا نكتم غشا للمسلمين ، وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا ، ولا نظهر عليها صليبا ، ولا ترفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون ، وألا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق المسلمين ، وألا نخرج باعوثا - قال : والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر - ولا شعانين ، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ، ولا نظهر النيران معهم في أسواق [ ص: 1160 ] المسلمين ، وألا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور ، ولا نظهر شركا ، ولا نرغب في ديننا ولا ندعو إليه أحدا ، ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين ، وألا نمنع أحدا من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام ، وأن نلزم زينا حيثما كنا ، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ، ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ، وأن نجز مقادم رءوسنا ، ولا نفرق نواصينا ، ونشد الزنانير على أوساطنا ، ولا ننقش خواتمنا بالعربية ، ولا نركب السروج ، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف ، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشدهم الطريق ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس ، ولا نطلع عليهم في منازلهم ، ولا نعلم أولادنا القرآن ، ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة ، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد . ضمنا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا ، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا ، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق " .
[ ص: 1161 ] فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فكتب إليه عمر : " أن أمض لهم ما سألوا ، وألحق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم : ألا يشتروا من سبايانا [ شيئا ] ، ومن ضرب مسلما [ عمدا ] فقد خلع عهده " . فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك ، وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط .
قال الخلال في كتاب " أحكام أهل الملل " : " أخبرنا عبد الله بن أحمد . . . " فذكره ، وذكر سفيان الثوري ، عن مسروق ، عن عبد الرحمن بن غنم قال : " كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام وشرط [ ص: 1162 ] عليهم فيه ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ، ولا يجددوا ما خرب ، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم ، ولا يئوا جاسوسا ، ولا يكتموا غشا للمسلمين ، ولا يعلموا أولادهم القرآن ، ولا يظهروا شركا ، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه ، وأن يوقروا المسلمين ، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس ، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم ولا يتكنوا بكناهم ، ولا يركبوا سرجا ولا يتقلدوا سيفا ، ولا يبيعوا الخمور ، وأن يجزوا مقادم رءوسهم ، وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا ، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ، ولا يظهروا صليبا ولا شيئا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين ، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم ، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيا ، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين ، ولا يخرجوا شعانين ، ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم ، ولا يظهروا النيران معهم ، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت فيه سهام المسلمين . فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم ، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق " .
[ ص: 1163 ] وقال الربيع بن ثعلب : حدثنا يحيى بن عقبة بن أبي العيزار ، عن سفيان الثوري ، والوليد بن نوح ، [ والسري ] بن مصرف يذكرون عن طلحة بن مصرف ، عن مسروق ، عن عبد الرحمن بن غنم قال : كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى أهل الشام : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا : إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا ، وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا كنيسة ولا صومعة راهب . . . " فذكر نحوه .
[ ص: 1164 ] وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها ، فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها ، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على [ ص: 1165 ] ألسنتهم وفي كتبهم ، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها .
فذكر أبو القاسم الطبري - من حديث أحمد بن يحيى الحلواني - حدثنا عبيد بن [ جناد ] : حدثنا عطاء بن مسلم الحلبي ، عن صالح المرادي ، عن عبد خير قال : رأيت عليا صلى العصر فصف له أهل نجران صفين ، فناوله رجل منهم كتابا ، فلما رآه دمعت عينه ثم رفع رأسه إليهم قال : " يا أهل نجران ، هذا والله خطي بيدي وإملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم " . فقالوا : يا أمير المؤمنين ، أعطنا ما فيه . قال : ودنوت منه فقلت : إن كان رادا على عمر يوما فاليوم يرد عليه ! فقال : لست براد على عمر شيئا صنعه ، إن عمر كان رشيد الأمر ، وإن عمر أخذ منكم خيرا مما أعطاكم ، ولم يجر عمر ما أخذ منكم إلى نفسه إنما جره لجماعة المسلمين " .
[ ص: 1166 ] وذكر ابن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي : أن عليا رضي الله عنه قال لأهل نجران : إن عمر كان رشيد الأمر ، ولن أغير شيئا صنعه عمر ! .
وقال الشعبي : قال علي حين قدم الكوفة : ما جئت لأحل عقدة شدها عمر ! .
[ ص: 1167 ] وقد تضمن كتاب عمر رضي الله عنه هذا جملا من العلم تدور على ستة فصول :
الفصل الأول : في أحكام البيع والكنائس والصوامع وما يتعلق بذلك .
الفصل الثاني : في أحكام ضيافتهم للمارة بهم وما يتعلق بها .
الفصل الثالث : فيما يتعلق بضرر المسلمين والإسلام .
الفصل الرابع : فيما يتعلق بتغيير لباسهم وتمييزهم عن المسلمين في المركب واللباس وغيره .
الفصل الخامس : فيما يتعلق بإظهار المنكر من أفعالهم وأقوالهم مما نهوا عنه .
الفصل السادس : في أمر معاملتهم للمسلمين بالشركة ونحوها